«تكنولوجيا تخدم القمع».. كيف تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في العنف الأسري؟
«تكنولوجيا تخدم القمع».. كيف تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في العنف الأسري؟
شهد العنف المنزلي المرتبط بالتكنولوجيا ارتفاعًا غير مسبوق في السنوات الأخيرة، ما يكشف عن نوع جديد من الإساءة يختبئ وراء الشاشات والأجهزة الرقمية، إذ لم يعد العنف المنزلي يعتمد فقط على السيطرة الجسدية أو النفسية، بل امتد ليشمل أدوات التكنولوجيا المستخدمة بشكل متزايد للتحكم في الضحايا ومراقبتهم وإرهابهم دون أن تترك أي علامات جسدية ظاهرة.
وتشير بيانات حديثة إلى أن هذا النوع من العنف يمثل تهديدًا متزايدًا على النساء والفتيات بشكل خاص وفقًا لتقرير صادر عن مركز "إحصاءات العنف الأسري".
في الولايات المتحدة، أفادت 79% من النساء اللاتي تعرضن لعنف منزلي بأنهن تعرضن أيضًا لمضايقات عبر الإنترنت أو إساءة استخدام التكنولوجيا.
وسلط تقرير أعدته صحيفة "الإندبندنت" الضوء على 48,170 حالة عنف منزلي ضد النساء والفتيات بين أغسطس 2022 ويوليو 2023، تضمنت عنصرًا تكنولوجيًا، ما يدل على زيادة قدرها 15% مقارنة بالفترات السابقة، وفقًا لدراسة أجراها مركز دعم النساء في بريطانيا.
أشكال متعددة من العنف
يتجلى هذا العنف التكنولوجي في أشكال عدة، بدءًا من مراقبة المكالمات الهاتفية إلى التجسس على الرسائل الخاصة واستخدام برامج تتبع المواقع.
وأظهرت دراسة أعدتها "منظمة العنف الأسري الدولية" أن 68% من الناجيات من العنف المنزلي أبلغن عن استخدام الشريك السابق لأجهزة التكنولوجيا في مراقبتهن.
جهود الدعم للضحايا
من جهة أخرى، تم تأسيس فريق مختص في منظمة "ريفيوج" عام 2017 لمساعدة النساء اللاتي تعرضن لعنف تكنولوجي.
ومع مرور الوقت، تزايد عدد الحالات بشكل كبير، حيث تم تحويل 514 امرأة إلى هذا الفريق في العام 2023، مقارنة بـ167 حالة في 2018، ما يعكس التحديات التي يواجهها المجتمع في التعامل مع هذه الظاهرة.
ويؤثر العنف التكنولوجي على النساء بطرق نفسية وجسدية معقدة، حيث تتجاوز تداعياته السلبية الأذى الجسدي ليشمل أبعادًا نفسية عميقة.
وتشير الدراسات إلى أن الضحايا يعانين من مشاعر الخوف والقلق والاكتئاب، ما يعكس حجم الضرر النفسي الذي تتسبب به هذه الأنماط من العنف.
وفقًا لتقرير أعدته "منظمة الصحة العالمية" في عام 2022، أظهرت الأبحاث أن النساء اللاتي تعرضن للعنف الرقمي يواجهن خطرًا متزايدًا للإصابة بالاكتئاب بنسبة تصل إلى 85% مقارنة بغيرهن.
آثار العنف على نوعية الحياة
وكشف تقرير صادر عن "مركز الإحصاء الوطني" في بريطانيا أن 64% من النساء اللاتي تعرضن للعنف التكنولوجي أفدن بأنهن يشعرن بقلق دائم أو خوف من تعرضهن للأذى، ما يؤثر على نوعية حياتهن بشكل عام وهذا القلق المستمر يمكن أن يؤدي إلى عواقب جسدية أيضًا، حيث أظهرت الدراسات أن الإجهاد الناتج عن العنف التكنولوجي يمكن أن يسبب اضطرابات نوم، ما يزيد من مخاطر الإصابة بمشاكل صحية مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب.
تشير البيانات إلى أن 70% من النساء اللاتي تعرضن للعنف التكنولوجي أبلغن عن آثار جسدية، بما في ذلك الصداع وآلام الظهر واضطرابات الجهاز الهضمي، وفقًا لدراسة نشرتها "جمعية الطب النفسي الأمريكية" في 2023.
الانعزال الاجتماعي
ويؤثر العنف التكنولوجي على العلاقات الاجتماعية للضحايا، حيث يمكن أن يؤدي إلى الانعزال الاجتماعي والشعور بالوحدة.
ووفقًا لدراسة أجراها "مركز الأبحاث الاجتماعية"، أفاد 58% من النساء بأنهن قطعن العلاقات مع الأصدقاء والعائلة بسبب الخوف من ردة فعل الشريك المسيء. هذا الانعزال يعزز من التأثيرات النفسية السلبية، ما يؤدي إلى تفاقم الاكتئاب والقلق.
ولا ينتهي العنف التكنولوجي بمجرد انتهاء العلاقة، بل يمكن أن يستمر حتى بعد انفصال الضحية عن الجاني. وفقًا لتقرير أعدته "منظمة العنف الأسري"، أفادت 61% من النساء بالاستمرار في التعرض للمضايقات الرقمية بعد الانفصال.
دعوات لتعزيز التعاون
تتزايد الدعوات لتعزيز التعاون بين الحكومة والشرطة وشركات التكنولوجيا. فالتكنولوجيا بحد ذاتها ليست مشكلة، لكن يجب التأكد من عدم استغلالها في الإساءة للآخرين وينبغي على شركات التكنولوجيا تطوير أدوات وتقنيات تحمي الخصوصية وتمنع الاستخدام المسيء للتكنولوجيا كما يتعين تقديم المزيد من الدعم القانوني والتقني للضحايا لضمان عدم تركهم في مواجهة الجناة.
يرى حقوقيون أنه وعلى الرغم من الجهود المبذولة، لا تزال هناك فجوة كبيرة في الفهم العام حول العنف التكنولوجي، لذلك، يجب تكثيف حملات التوعية لتعريف النساء والرجال بمخاطر استخدام التكنولوجيا في العلاقات المسيئة ويجب أن تتعلم الضحايا كيفية حماية أنفسهن من المراقبة غير المصرح بها وتأمين حساباتهن الإلكترونية.
انتهاكات حقوقية صارخة
شهد العنف المنزلي المرتبط بالتكنولوجيا تصاعدًا ملحوظًا، حيث اعتبره الخبير البحريني في حقوق الإنسان، عبدالله الزوايده، امتدادًا خطيرًا لأنماط القمع والسيطرة التي تستهدف الأفراد، خصوصًا النساء، داخل العلاقات الأسرية.
وأضاف الزوايده في تصريحاته لـ"جسور بوست"، يعتبر هذا النوع من العنف انتهاكًا صريحًا للحقوق الأساسية التي يجب أن تُصان للجميع، فهو يتجاوز مفهوم العنف الجسدي ليطال الخصوصية، والحرية الشخصية، وحق الأفراد في السلامة النفسية والعقلية، إذ تُستخدم التكنولوجيا كوسيلة للتحكم في الضحايا بطرق سرية، ما يجعلها أكثر تدميرًا وتهديدًا.
وأشار إلى أن العنف المنزلي التكنولوجي ينتهك الحق في الخصوصية، وهو حق أساسي ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث يستخدم المعتدون التكنولوجيا لمراقبة تحركات الضحايا من خلال تطبيقات الهواتف الذكية أو لمراقبة اتصالاتهم عبر الرسائل النصية والبريد الإلكتروني، ما يُعتبر تدخلاً تعسفيًا في الحياة الخاصة.
علاوة على ذلك، يهدد العنف التكنولوجي حق الأفراد في التعبير والتواصل بحرية. عندما يستخدم المعتدي التكنولوجيا للتجسس أو لتقييد الوصول إلى الإنترنت، يُعزل الضحايا عن المجتمع، ما يفاقم عزلتهم النفسية.
الأثر النفسي والصعوبات القانونية
وأوضح الزوايده، أن العنف المنزلي التكنولوجي يتميز بخفائه واستمراريته، ما يجعل الضحايا في حالة قلق دائم ولا يعرفون متى أو كيف ستُستخدم التكنولوجيا ضدهم. هذه الظروف تؤدي إلى تهديدات نفسية تؤثر على الصحة العقلية والنفسية للضحايا، وهو ما يتعارض مع الحق في التمتع بالصحة الجسدية والعقلية.
وتابع، من ناحية أخرى، يفتقر النظام القضائي حاليًا إلى القدرة على معالجة هذا النوع من الجرائم بفاعلية، حيث يُعاني الضحايا من صعوبة إثبات حالات العنف التكنولوجي في المحاكم بسبب غياب الأدلة الجسدية. ما يؤدي إلى إفلات المعتدين من العقاب.
ضرورة التشريعات الجديدة
في سياقٍ متصل، أكد الخبير القانوني فتحي منياوي، الحاجة الملحة لوضع تشريعات جديدة لحماية الضحايا من العنف التكنولوجي. رغم بعض الجهود المبذولة، فإن القوانين الحالية غالبًا ما تكون غير كافية لتلبية احتياجات الضحايا المتزايدة. فالعديد من القوانين لا تشمل تعريفات واضحة للعنف التكنولوجي، ما يعيق الاعتراف بهذه الأشكال من العنف.
وأكد منياوي في تصريحات لـ“جسور بوست”، أنه يجب على الدول تطوير تشريعات أكثر صرامة، تتضمن تعريفات شاملة للعنف التكنولوجي، ورفع مستوى الوعي لدى صانعي القرار حول طرق استغلال المعتدين للتكنولوجيا. كما ينبغي تعزيز التدريب للسلطات المختصة، ما سيمكنها من التعامل مع هذه القضايا بشكل فعال.
تعاون دولي واستجابة شاملة
وأفاد بأنه لتحسين الحماية القانونية للنساء، يُنصح بإنشاء مراكز استشارية تقدم الدعم للضحايا، بالإضافة إلى برامج توعية تهدف إلى تعزيز المعرفة بحقوق النساء وكيفية التعرف على علامات العنف التكنولوجي. يجب أن تشمل التدابير أيضًا آليات قانونية تضمن حماية الضحايا من الانتقام.
واختتم، قائلا: تتطلب ظاهرة العنف المنزلي التكنولوجي استجابة تشريعية عاجلة وشاملة، حيث يُعتبر غياب تشريعات فعالة فرصة للمعتدين للاستمرار في اعتداءاتهم. من خلال تحسين القوانين وتوفير الموارد اللازمة، يمكن للمجتمعات أن تحمي النساء وتساعدهن على استعادة حريتهن وكرامتهن في عالم يتسم بتعقيد متزايد.